حاوره: هشام أبو مريم-بروكسل –

 

يعيش هموم الأقليات المسلمة في أوروبا والتحديات التي تواجهها، ويحاول من خلال موقعه كمفكر وأكاديمي قراءة المشهد وتعقيداته، وفك طلاسمه.

 

إنه الدكتور خالد حاجي الأمين العام للمجلس الأوروبي للعلماء المغاربة، ورئيس منتدى بروكسل للحكمة والسلم العالمي.

 

يرى المفكر المغربي في حوار مع الجزيرة نت أن مشكلة التعايش بالنسبة للأقليات المسلمة في أوروبا أساسها عدم وعيها بطبيعة السياق الأوروبي.

 

ولتمكين وجود إسلامي في أوروبا، يدعو الأستاذ حاجي إلى تجديد وعي المسلمين بذواتهم وبعلاقتهم مع العالم، كما يدعو الأوروبيين إلى تجديد تمثلاتهم تجاه المسلمين والإسلام.

 

ويحذر من وجود أطراف تستثمر ما أسماه “صناعة التخويف بالإسلام” بهدف تكريس فكرة وجود عداوة مستحكمة بين المسلمين من جهة، والمنظومة الحضارية الأوروبية من جهة أخرى، وبالتالي استحالة التعايش بين الطرفين.

 

ولفت خالد حاجي إلى أن التيارات الشعبوية الأوروبية المتطرفة لا تمثل تهديدا فقط للأقليات المسلمة، بل تهدد مستقبل ووحدة أوروبا بأكملها.

 

ويخلص إلى ضرورة تجديد الخطاب الديني وإصلاحه سواء في العالم العربي والإسلامي، أو في السياق الأوروبي، من أجل إعادة ترسيم الحدود بين الديني والسياسي، وإعادة التفكير في سبل تجسير الهوة بين روح التراث وروح العصر.

 

 

ما تشخيصك لحالة الأقلية المسلمة في أوروبا في ضوء الأحداث السياسية والأمنية التي تعيشها القارة في السنوات الأخيرة؟

 

لا جدال في أن القارة الأوروبية تمثل فضاء للحريات، فضاء يتم الاحتكام فيه إلى القانون، ويستظل فيه الجميع، مسلمون وغير مسلمين بظل المواطنة التي يتأسس عليها التعدد العرقي والديني والإثني.

 

المسلمون في هذا الفضاء ينعمون كغيرهم بحقوق كثيرة؛ كالحق في العبادة والتجمع والتعبير والتمدرس والعمل وغيرها من الحقوق. وهذه نعم قد يفتقدها المسلم في كثير من الفضاءات الأخرى.

 

غير أن الأحداث المتسارعة تؤشر على وجود شيء ما يختصم داخل المجتمعات الأوروبية، شيء يتزايد معه القلق والخوف من مستقبل التعايش بين مختلف المكونات. هناك خطابات شعبوية ومتطرفة تجعل المسلمين يشعرون بأن الفضاء الأوروبي قد يضيق في وجههم، وأنهم مدعوون في كل لحظة لدفع تهمة التطرف والغلو والإرهاب وتصحيح صورة الإسلام، وهذه الأمور تورث حالة نفسية غير صحية طبعا.

 

دعنا نقل إن هناك تحديات كثيرة في الأفق.

 

هل تعتقد بأن المشاكل التي تعيشها الأقليات المسلمة في مجتمعاتها الأوروبية ترجع أساسا إلى عدم وعيها جيدا بطبيعة الأنظمة العلمانية التي تحكمها؟

 

مشكل التعايش بين المسلمين وأوروبا لا يرتبط بسؤال العلمانية فحسب. التوتر القائم بين العلمانية والمسلمين قد يكون في بعض السياقات الأوروبية أظهر منه في سياقات أخرى؛ فالسياق الفرنسي مثلا ليس هو السياق الألماني أو البريطاني أو الإيطالي، لذلك لا يمكن رد مشاكل الأقليات المسلمة في أوروبا إلى محدد واحد؛ هو عدم الوعي بطبيعة الأنظمة العلمانية.

 

ولكن لسنا نجانب الصواب إن قلنا إن هناك مشاكل مردها عدم وعي المسلمين بطبيعة السياق الأوروبي عموما، وإن حل هذه المشاكل يقتضي الاشتغال على تجديد وعي المسلمين بذواتهم وبعلاقتهم مع العالم، هذا العالم الذي نتوفر على تمثلات مغلوطة بخصوصه.

 

وفي الوقت نفسه، لا يجوز للجانب الأوروبي التنصل من مسؤولياته تجاه المسلمين بوصفهم أقلية دينية يقتضي التعامل مع خصوصياتها بعض الحكمة وسعة الصدر.

 

هناك خطابات إعلامية كثيرا ما تكون أسرع إلى اكتشاف الخلل في العلاقة بين هذه الأقلية وباقي مكونات المجتمع، ولا بد لأوروبا كذلك أن تشتغل على تجديد تمثلاتها للإسلام والمسلمين.

 

هل تعتقد بأن مسلمي أوروبا يتحملون جزءا من المسؤولية في ما يتعلق بالصورة التي تتمثل في أذهان الأوروبيين ومخيلتهم الجمعية؟ وهل تعتقد بأن الخوف من الإسلام في أوروبا له ما يفسره؟ أم أنه خوف تحكمه إيديولوجيا وأجندات سياسية؟

 

لا جدال في أن المسلمين يتحملون قسطا من المسؤولية في ما يعلق في أذهان الآخرين من صور بخصوصهم؛ فالمسلمون فاعلون في البيئة الأوروبية، تجدهم في كل مكان، في السوق، وفي أماكن الدراسة والعمل، في المؤسسات وفي الفضاء العام؛ وبالتالي فتصرفاتهم تخلف انطباعات لدى شركائهم في المواطنة، بعضها إيجابي وبعضها سلبي، هذا أمر طبيعي جدا.

 

نحن إزاء ظاهرة احتكاك ثقافي وحضاري، يولد تشنجات كما يولد ضروبا من التفاهم. فلا يخفى أن للمسلمين رصيدا روحيا وثقافيا كبيرا، يستصحبونه حيثما حلوا وارتحلوا، وهو ما قد يكون مصدر تساؤل أو قلق وتوجس لدى الآخرين؛ فالخوف من سلوك المسلمين الثقافي شيء طبيعي للغاية، يكاد يكون خوفا بيولوجيا غريزيا في مثل حالات الاحتكاك هذه، وعلى المسلمين التلطف في دخول الفضاء العمومي والحرص على تجنب كل قول وسلوك قد يقوض الثوابت التي يقوم عليها هذا الفضاء.

 

تنامي الحضور الإسلامي بالغرب تصاحبه مخاوف عدة ودعوات لتجديد الخطاب الديني (الجزيرة)

غير أن هناك في المقابل ما أعتبره “صناعة التخويف بالإسلام”، ووراء هذه الصناعة جهات كثيرة هدفها تقديم صورة نمطية عن الإسلام والمسلمين تصب في تكريس الاعتقاد بوجود عداوة مستحكمة بين الإسلام والمسلمين من جهة، والمنظومة الثقافية والحضارية الأوروبية من جهة أخرى، وهذا بغرض دعوة الأوروبيين للاتفاق حول قناعة مفادها استحالة بلوغ التعايش مع الأقلية المسلمة، وضرورة التضييق على الحضور الإسلامي في الغرب عموما وأوروبا خصوصا، وكذلك إغلاق الباب في وجه الوافدين الجدد من العالم الإسلامي. وهناك جهات تستثمر هذه القناعة للربط بين الهجرة والإرهاب؛ الأمر إذا متداخل.. فيه الذاتي والموضوعي، وفيه ما هو طبيعي، وما هو صناعي إذا جاز القول.

 

أسباب توجه شباب الأقليات المسلمة في أوروبا نحو التطرف ليست دينية فقط، بل هناك أسباب تربوية واجتماعية واقتصادية لهذه الظاهرة، وهو ما يرفض الاعتراف به عدد من هذه الدول، لماذا في رأيك؟

 

لا يوجد عاقل لا يعترف بتعدد المحددات وراء الغلو والتطرف، والمؤسسات الأوروبية عموما تفقه طبيعة هذا التعقيد المرتبط بظواهر الغلو والتطرف الدينيين في أوساط بعض الشباب المسلم، وهذا ما نلمسه في التقارير والأبحاث الجادة، وخطابات كبار المسؤولين في البرلمان الأوروبي مثلا.

 

أما عدم الاعتراف بتعدد المحددات وراء تطرف الشباب المسلم في أوروبا والاكتفاء بإلقاء اللوم على الخطاب الإسلامي والمسلمين، والأئمة، والمساجد، فهذا الأمر مرتبط بالمزايدات السياسية، وبحاجة بعض الأحزاب إلى تقديم حلول آنية لظاهرة معقدة، حيث يكتفون بتحديد جهة واحدة مسؤولة عما حصل ويحصل، حتى يسهل عليهم إيهام الرأي العام بوجود “خطة عمل” أو “خارطة طريق”، أو ما شابه ذلك من التعابير التي أصبحت مبتذلة.

 

ولكن علينا توخي الحذر: القول بتعدد المحددات يجب ألا يعفي الطرف الإسلامي من مسؤولياته الأخلاقية في مجابهة التطرف والغلو الديني، المسلمون يتحملون قسطا كبيرا في ما آل إليه الشباب المسلم في أوروبا من أشكال في التدين وضروب من الاعتقاد تخرجهم من العصر وتباعد الشقة بينهم وبين المجتمع.

 

هل يغذي كل من التطرف الإسلامي والتطرف اليميني والعنصري في أوروبا بعضهما بعضا، وكيف ذلك؟

 

القول إن التطرف يغذي التطرف قول يكاد لا يحتاج إلى توضيح. من يفكك خطابات التطرف يجدها لا تقوم إلا على استدعاء عدو خارجي يتم تقديمه بوصفه مهددا لهوية الذات الأصيلة النقية؛ فالمتطرف الإسلامي يقتات على ما وقر في المخيلة الجمعية من صور تقدم الغرب في صور العدو اللدود للإسلام والمسلمين، العدو الذي لا يتوانى في الاجتهاد من أجل غزو الفضاء الإسلامي بغرض محق مقومات الهوية الإسلامية.

 

والتطرف اليميني الشعبوي يستدعي صورا نمطية موروثة تركز الاعتقاد في وجود مسلمين على الهامش وفي الداخل يتربصون بالحضارة الغربية، يرومون تقويض أسسها. والحاصل أن هذه الصور بعيدة كل البعد عن الواقع وتعقيداته. من يتأمل حقيقة الأمور يجد أن في الغرب شرقا، وسيجد في الشرق غربا، وأن الذات مدخولة من الغير، وأن الغير تسكنه الذات.

 

العقلاء هم من يؤمنون بالتداخل، فيكونون كما يقول الشاعر الفرنسي بودلير في سياق حديثه عن ميزة الشاعر: “له الحرية أن يختار كيف يكون في الوقت نفسه ذاته والغير”.

 

التطرف يوهمنا بوجود حدود فاصلة بين الأنا والغير، وبأن هذه الحدود سرمدية لا ترتفع، بمعنى أنه من كان عدوك بالأمس سيظل عدوك إلى أبد الآبدين. وهذا منطق فاسد بمنطق القرآن الكريم؛ تأمل قوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ). فالفعل الحسن قمين بأن يخرج العلاقة من طور العداوة المستحكمة إلى طور الصداقة الحميمية، والفعل السيئ يخرجها من طور الصداقة الحميمية إلى طور العداوة المستحكمة. هذا على خلاف من يعتقد بأن الصراع صراع جواهر مختلفة. من كان هذا مذهبه في الاعتقاد فاعلم أنه من الذين لا يرغبون في تحمل المسؤولية الأخلاقية في الصراع، وهذه هي حال القوى المتطرفة التي تختزل الآخر العدو في بعد ثابت حتى يسهل عليها تبرير التصارع معه.

 

ما رأيك في تنامي التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة ووصول بعضها إلى الحكم في عدد من الدول الأوروبية؟ وهل فيها تهديد للوجود الإسلامي في أوروبا؟

 

إذا كان اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية يمثلان تهديدا لمستقبل القارة الأوروبية بأكملها، ويهددان بنسف الثوابت والمبادئ التي يقوم عليها الاتحاد الأوروبي كوحدة متجانسة، وكمنظومة ثقافية تضمن احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وما إلى غير ذلك، فمن باب أولى أن يمثل تهديدا للأقليات المسلمة التي هي أضعف حلقة وأكثر الأقليات استضعافا. من المؤكد أن تنامي هذه التيارات مقلق، فليس أقل من أنه سيضيق على المسلمين في مجالات كثيرة، منها مجال العمل والشغل مثلا.

 

التيارات اليمينية والشعبوية نظمت عدة تظاهرات بمدن أوروبية رفضا للمهاجرين والرموز الإسلامية (رويترز)

ما رأيك في دعوة بعض الزعماء الأوروبيين إلى “إسلام أوروبي”؟ ومطالبة بعض المؤسسات الإسلامية الأوروبية بتجديد الخطاب الديني وإصلاحه؛ كي يكون أكثر مواءمة للبيئة الأوروبية؟

 

هذه الأسئلة تنقسم إلى شقين: شق متعلق بغير المسلمين، وما يسعون إلى فرضه من تصورات وآراء بخصوص الإسلام المناسب للبيئة الأوروبية، وشق متعلق بالمسلمين وما يقدمونه من اجتهادات بغرض التجديد والإصلاح الدينيين، وعيا منهم بضرورة بلوغ ضروب من التدين تراعي شروط ومقتضيات التعايش في السياق الأوروبي.

 

بداية لا بد من تعريف المقصود والمطلوب من الإسلام الأوروبي؛ فالأمر يحيط به التباس كبير، ولكن يمكن قبول فكرة الإسلام الأوروبي إذا كان المقصود بها هو خلق أرضية للنقاش بين المسلمين باعتبارهم الوافد الجديد على بيئة أوروبية تشريعية وثقافية جديدة، وبين أصحاب هذه البيئة، في أفق “تبيئة” الإسلام والاعتراف به كمكون من مكونات الهوية الأوروبية، فهذا الأمر محمود، ذلك أننا نشعر بضرورة خلق فضاءات للتشاور والتعارف والتعاون بين المسلمين وغيرهم في السياق الأوروبي.

 

وإذا كان المقصود بفكرة الإسلام الأوروبي إسلاما مرادفا لما عرف في التاريخ الإسلامي من تلوينات تطرأ على تدين المسلمين بفعل احتكاكهم ببيئات ثقافية جديدة، مثل أن يقال “إسلام مصري”، و”إسلام مغربي”، و”إسلام سعودي”، و”إسلام آسيوي”، وما إلى غير ذلك، فهذا الأمر محمود كذلك ولا ضرر في أن يكون هناك “إسلام أوروبي”، أي تدين يصطبغ بصبغة السياق المحلي ويراعي مقتضياته وشروطه.

 

أما أن ينظر إلى الإسلام الأوروبي بوصفه إسلاما متحيزا جغرافيا، منفصلا عن التأثيرات الخارجية، فهذا أمر لا يستقيم، بل يصب في تكريس منطق صراع الحضارات، حيث يكرس جدلية الداخل والخارج؛ فلهذا الأمر انعكاسات خطيرة على المسلمين وعلى أوروبا، حيث سيفصل المسلمين عن إرثهم الروحي الذي لا يتحيز في زمان ولا مكان؛ وسيحرم أوروبا من الانفتاح على العالم العربي والإسلامي، وهو الانفتاح الذي أصبح ضروريا.

 

وأما السؤال المتعلق بتجديد الخطاب الديني وإصلاحه، فلا يسعنا إلا أن نسلم بأن التجديد ضرورة ملحة؛ فالمسلمون -سواء في العالم العربي والإسلامي أو في السياق الأوروبي- محتاجون أكثر من أي وقت مضى إلى الوقوف وقفة تأمل عميقة لإعادة ترتيب بعض الأوليات، وإعادة ترسيم الحدود بين الديني والسياسي، والتفاعل مع الوحي بروح المسؤولية الأخلاقية، وإعادة التفكير في سبل تجسير الهوة بين روح التراث وروح العصر. هذه عينة من بعض الأسئلة الكبرى التي يجب الاشتغال عليها، ولا فضاء أفضل من الفضاء الأوروبي لإعادة النظر في هذه العلاقات، ذلك أن هذا الفضاء يتسع أكثر من غيره لجدل الأفكار وللاختلاف؛ فالاختلاف حول هذه الأمور لا يفسد للود قضية، بل يسهم في تلقيح الألباب.

 

كيف تستشرف الوجود الإسلامي في أوروبا خلال العقدين المقبلين على الأقل؟

 

لم يشهد العالم مرحلة كان فيها أكثر انفتاحا على المجهول من المرحلة الراهنة؛ إن العالم يعيش مرحلة انتقالية، فهو في طور الخروج من ثقافة الديمقراطية والحداثة والأنوار وكل المفاهيم التي تأسس عليها وعيه بذاته، إلى طور الدخول في ثقافة رقمية جديدة، لم تتضح بعد معالم السلطة المتحكمة فيها، وعليه يصعب التنبؤ بما يحمله الغد.

 

لا يسعني، وأنا أجيبك عن مستقبل الحضور الإسلامي في أوروبا، إلا أن أتمثل قول الشاعر:

 

لو كنت أعجب من شيء لأعجبني * سعي الفتى وهو مخبوء له القدر

 

يسعى الفتى لأمور ليس مدركها * والنفس واحدة والهم منتشر

 

والمرء ما عاش ممدود له أمل * لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر.