الدكتور خالد حاجي رئيس منتدى بروكسيل للحكمة والسلم العالمي.

 

 

قدمت المفوضية الأوروبية كتابا أبيضا للمساهمة في اجتماع قمة روما الذي انعقد يوم 25 مارس 2017، وهو الكتاب الذي تضمن خمس سيناريوهات متعلقة بمستقبل أوروبا في أفق 2025. ويعرض الكتاب لأهم التحديات التي تواجه القارة الأوروبية وكذا لأيسر الفرص التي من الممكن أن تسنح للأوروبيين خلال العشر سنوات القادمة. ويرى محررو هذا الكتاب أنه على الرغم من فترة الرخاء التي عرفتها القارة على امتداد سبعين سنة الماضية والتي مكنت أكثر من خمس مائة مليون من الأوروبيين من العيش في أمن وسكينة واطمئنان في كنف أغنى اقتصاد عالمي، فإنه من الضروري النظر إلى الأمام بغرض إنضاج تصور حول مستقبل القارة يكون محط اتفاق الدول المكونة للاتحاد الأوروبي.

 

وأود التوقف هنا عند أمرين اثنين، استوقفاني خلال مشاركتي في نقاش السيناريوهات الخمس، في إطار البند السابع عشر المنظم للعلاقة بين المؤسسات الأوروبية وممثلي الديانات. أول الأمرين متعلق بتقوية البعد الاجتماعي للاتحاد، وثانيهما متعلق بالتحكم في العولمة. كما أود التذكير في هذا المقام بأن النقاش الدائر داخل أوروبا حول سيناريوهات مستقبلها لا يعني الأوروبيين فحسب، بل يعني جيران أوروبا وشركاءها كذلك، فما بالك بالأقليات المسلمة المقيمة في مختلف البلدان الأوروبية. ولعله من الوهم وعدم الفهم وقلة الوعي والإدراك الذهاب إلى القول بأن ما تناقشه أوروبا أمر لا يعني المسلمين.

 

إن الدعوة لتقوية البعد الاجتماعي داخل دول الاتحاد الأوروبي تعكس إحساسا متناميا بانفصام العرى التي تشد المجتمعات الأوروبية إلى بعضها البعض. وقد زاد من تنامي هذا الإحساس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، هذا الخروج الذي أصبح يخشى معه أن تتوسع دائرة المطالبين بالانفصال، فتنتهي، كما نرى في إسبانيا مثلا، لا إلى المطالبة بانفصال الدول عن الاتحاد الأوروبي، بل إلى انفصال جهات من البلد الواحد عن بعضها البعض، وهذا أمر لا يُؤمَن مع وقوعه أن تسري ناره كما تسري النار في الهشيم.

 

ومما يدعو إلى الخوف والقلق على تماسك المجتمعات الأوروبية نمو الخطابات الشعبوية، اليمينية المتطرفة، وهي الخطابات التي تركب تذمر القواعد الشعبية من بعض القيادات السياسية الأوروبية في ظل تراجع المكتسبات الاجتماعية، وتنامي الشعور ببعد الشقة بين المواطن البسيط والنخب القابعة في مؤسسات بروكسيل. فقد أصبح الخطاب الشعبوي أقوى من أن يستهان به، حتى أنه أصبح يستدرج النخب السياسية المتنافسة على أصوات هؤلاء المتذمرين نحو المزايدة في إظهار القسوة والغلظة اتجاه الأقليات المهاجرة، وكذا إظهار الحزم ورباطة الجأش في التعامل مع الاتحاد الأوروبي، ثم التأكيد على ضرورة الخروج من الاتحاد في حال تم المساس بشعرة واحدة من سيادة الدولة. هذه الظواهر وغيرها تصور لنا حالة من حالات الضعف والهزال التي أصبحت تنذر بتشظي الوحدة الأوروبية، وتقويض القوانين الأساسية التي انبنت عليها، وهي الحالة التي يحاول مناقشو الكتاب الأبيض اقتراح سبل تفاديها.

 

ولا يخفى أن هذه العوامل مجتمعة ليست، من حيث وقعها على نفسية المواطن الأوروبي البسيط، أكثر حدة من وقع ظاهرتي الإرهاب والهجرة، وهما ظاهرتان ملازمتان، في وعي هذا المواطن ولا وعيه على حد سواء، للإسلام والمسلمين. ولذلك فيكاد لا يخلو حديث من الأحاديث عن مستقبل أوروبا من التأكيد على ضرورة إصلاح الخطاب الديني الإسلامي، كخطوة ضرورية لضمان التماسك المجتمعي. ومع كثرة الحديث عن هذا الإصلاح تندب فئة من المثقفين والدارسين المتخصصين في الشأن الإسلامي نفسها لتفسير الظواهر المتعلقة بالحضور الإسلامي في أوروبا وما يستصحب هذا الحضور من معضلات ومشاكل، ولتعيين سبل إصلاح الإسلام وتأهيل المسلمين للتعايش مع غيرهم تحت سقف المواطنة الأوروبية.

 

وأما الدعوة إلى التحكم في العولمة فمردها إلى التوجس من شيوع مظاهر الفوضى وتصاعد الغبار الذي أصبح يخفي ملامح النظام العالمي الجديد. فبعد أن كان دعاة العولمة يتوسلون بها كنظام جديد تدبر تحت سقفه كل الخلافات، اكتشف الأوروبيون، مثلهم مثل غيرهم، أن كل قوة من القوى المتساكنة كانت تراهن على بلوغ ذروة العولمة للتحكم في مصير العالم وتحديد وجهته؛ لكن لما كانت الذروة لا تتسع لاثنين، خاب ظن القوى المتنافسة في الاستحواذ على مقود العولمة، فراح كل واحد يطلب شيئا يتميز به عن الآخرين كي يفرض بقاءه. فمن منطلق الحرص على البقاء كقوة مؤثرة في شؤون العالم تتمسك المجموعة الأوروبية بالوحدة والتكتل كخيار وحيد؛ إذ يتوقع مع تراجع النفوذ الأوروبي عبر العالم، وتزايد نفوذ بعض القوى الجديدة الصاعدة، أن لا يظفر أفضل بلد أوروبي بأكثر من واحد في المائة من حجم التأثير في شؤون العالم في أفق سنة ٢٠٦٠ م. بمعنى آخر، لن يكون لأوروبا شأن يذكر في المستقبل إلا في حال تمسكها بالوحدة وبقدرتها على الانفتاح على شركاء أقوياء.

 

نتخلص مما سبق ذكره إلى جملة من الملاحظات، أولها ما يتعلق بالدعوات لإصلاح الإسلام وتأهيل المسلمين. فهذه الدعوات تشي، في أحسن الحالات، بوجود جهل بواقع الإسلام والمسلمين، سواء في السياق الأوروبي أو خارجه؛ كما تشي، في أسوء الحالات، بوجود نية مبيتة لتحميل الإسلام والمسلمين أكثر مما يتحملون من أوزار التطرف والغلو. كثير ما يجهل المنادون بإصلاح الإسلام ما هو موضوع هذا الإصلاح. ففي حال كان موضوع الإصلاح هو التخلص من القراءات الفاسدة في النصوص الدينية بغرض إبراز القراءة الصحيحة، فهذا أمر يدعيه الجميع، السلفي والصوفي والسني والشيعي والمالكي والحنبلي وغيرهم. الكل يدعي أنه ما قام بما يقوم به إلا من منطلق تجديد القراءة أو العودة إلى القراءة الصحيحة للنصوص. وأما إن كان موضوع الإصلاح هو النصوص الدينية نفسها، فهذا أمر لا يضمن اجتماع المسلمين حول المعاني الجديدة التي ستقرر لهذه النصوص المعدلة. والواقع أن النصوص الدينية التي يتوارثها المسلمون، حتى وإن سلمنا بأنها الأصل من وراء بعض أوجه العنف والتطرف في صفوف المسلمين، فكيف ننسى بأنها هي نفسها التي كانت وراء تفتق حضارة إسلامية شكلت رافدا من أهم روافد الحضارة الإنسانية.

 

إذا جاز القول بأن الخطاب الديني الإسلامي في حاجة إلى تجديد وتطوير حتى يصبح أكثر مواءمة لروح العصر، فإنه لا يجوز رد مشكلة الغلو والتطرف حصريا إلى هذا الخطاب، ذلك أن في هذا القول ما يبرئ ساحة كثير من الجهات المسؤولة عما آلت إليه أوضاع العالم الإسلامي من مواقف يطبعها التشنج والعنف. هناك مسائل محسومة من الناحية الفقهية الدينية مثلا، لكن المسلمين يذهبون في سياقهم المجتمعي إلى استدعاء أجوبة فقهية أخرى واعتماد آراء متطرفة، وقد يكون السبب وراء هذا الاستدعاء وهذا الاعتماد هو الأوضاع الجيو ـ سياسية المتشنجة والإحساس بالغبن أمام سياسات عالمية جائرة. ولهذا فمن المستحيل التفكير في الإصلاح الديني بمعزل عن التفكير في تحمل المسؤوليات السياسية والأخلاقية تجاه المسلمين، سواء داخل أوروبا أو خارجها.

 

بعبارة أخرى، لا بد من اتخاذ المسلمين كشركاء في صنع السلم والأمن، عوض الاكتفاء بالنظر إليهم وإلى ثقافتهم كمصدر من مصادر التطرف والعنف والغلو. كما لا يجوز إغفال الحقيقة المرة التي مفادها أن المسلمين هم ضحايا هذا العنف بالدرجة الأولى. لكن وبالقدر الذي تصح دعوة الأوروبيين إلى شراكة مع العالم الإسلامي، خصوصا العالم العربي ـ الإسلامي، شراكة تقوي الطرفين وتمكنهما من أسباب التأثير في سياق العولمة ومجرياتها، فتصح كذلك دعوة المسلمين إلى تخليص الثقافة الدينية من عوالق القرون الوسطى. فمهما اتسعت صدور الآخرين، غير المسلمين، لفهم بعض المواقف الإسلامية، فهي لن تتسع حتما لتتفهم الأسئلة المتعلقة بجواز أو حرمة تهنئة المسيحيين بمناسبة أعيادهم، فضلا عن الآراء الفقهية التي تجيب بعدم الجواز. كما لن يتفهم الإنسان المعاصر كيف يبلغ الأمر ببعض أبناء الأمة الإسلامية حد الاشتغال بموضوع “التأصيل الفقهي لكراهية الآخرين”. هذه الأمور وشبيهاتها تغذي التطرف الموجود عند الآخرين، كما تذكي نار حرب الحضارات.

 

ولا شك أن الاتحاد الأوروبي اليوم في حاجة إلى مضاعفة الجهد كي ينمي علاقة حسن الجوار مع العالم العربي والإسلامي؛ خصوصا وأن في الضفة الأخرى من البحر الأطلسي رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية لا يبالي إن كان يذكي جذوة اليمين المتطرف والشعبوية في أوروبا، بتصريحاته وخرجاته الإعلامية التي لا يلقي لها بال. لم يدرك السيد الرئيس أن نقده لسياسة المستشارة الألمانية بخصوص الهجرة ساهم في إضعافها وخلق أجواء تشجع على تداول أقذر الأفكار وأكثرها انغماسا في معاداة المسلمين والمهاجرين. والواقع أنه بإضعاف رموز الاعتدال والتوازن والوسطية في السياق السياسي الأوروبي ستجد أوروبا نفسها منخرطة في دينامية جديدة، دينامية المطالبة باستعادة السيادات المفقودة، وغلق حدود أوروبا بغرض حماية الخصوصيات الثقافية، دينامية الانكماش على الذات الذي لن ينفعها في تحقيق الانفتاح على شركائها في العالم العربي والإسلامي.

 

أقف عند هذا الحد وأذكر في الختام أنه أثناء حديثي في محاضرة عن الإسلام وأوروبا، بادرني شخص بالسؤال: “هل تفكك أوروبا في صالحنا؟”، فسألته عن المقصود بصالحنا، “صالح من؟”. أجابني بأن المقصود هو “صالح المسلمين”. لو صدر مثل هذا السؤال عن شخص يعيش خارج أوروبا لكان الأمر مفهوما. ولكن كونه يصدر عن شخص يعيش داخل أوروبا، فهذا أمر يستدعي وقفة تأمل. عجيب قدرة بعض العقول الإسلامية على انتزاع ذاتها من سياق وجودها والتفكير من منطلقات أخرى! قلت لسائلي: إن كان في التفكك خير فسينسحب على الجميع، وإن كان فيه شر فسينسحب على الجميع كذلك. وإن كنت تظن أن في انهيار المجتمع الأوروبي ما ينفعك أنت كمسلم، فأنا لا أرى ذلك، بل أرى أن ضحايا هذا الانهيار الأوائل قد يكونوا هم المسلمون. وظني أن أفضل السيناريوهات هو مواصلة الجهود والإصلاحات الرامية إلى إعطاء نفس جديد للاتحاد الأوروبي، تفاديا لما يمكن أن يحصل من نكوص وانكماش يضيق معه الفضاء الأوروبي، ولئن ضاق هذا الفضاء على الأوروبيين، فسيكون لا محالة أضيق على المسلمين.