الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

أعيد في الفترة الأخيرة في المغرب طرح النقاش حول مسألة حرية المعتقد والأقليات الدينية بشكل يدعو إلى الشك حول دوافع إثارته بهذه الطريقة الصدامية، خصوصا وأن هذا الموضوع لا يرقى إلى أن يكون موضوع جدال بين الدولة ومجموعة من الفاعلين المجتمعيين بما أن الأمر قد حسم من مدة ليست بالقصيرة، ولا وجود لمانع قانوني أو ديني يقف أمام حرية الاعتقاد إن لم يكن فيها أي إشكال أو استفزاز لمشاعر الفرد أو المجتمع.

 

لقد عرف المغرب تاريخيا بنموذجه الديني القائم على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، وكانت إمارة المؤمنين ومازالت بمثابة الضامن لحرية الممارسات الدينية ولحماية أمن وسلامة الأفراد المعتنقين لديانات أخرى غير الديانة الإسلامية التي يعتقها مجمل المغاربة.

 

ولعل عدد الكنائس والبيع المتواجد في الكثير من المدن المغربية والقبول بالآخر، سواء من خلال مجاورته أو التعامل معه في مختلف مناحي الحياة اليومية أو احترام خصوصياته، من أبرز السمات التي بنيت عليها الثقافة المغربية منذ قرون، وما زالت متشبثة بها إلى يوم الناس هذا.

 

وبما أن الدساتير التي يصادق عليها المواطنون هي بمثابة المرجعيات التي تبنى عليها التعاقدات الاجتماعية في الدول والمجتمعات، فإن دستور 2011 نص في تصديره على التزام الدولة المغربية بصيانة تلاحم وتنوع مقومات ھويتھا الوطنية الموحدة و”الغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.

 

وإذا كان الدستور المغربي، بالنظر إلى اختيار معظم المغاربة للدين الإسلامي منذ قرون، قد أكد على مرجعية الدولة الإسلامية، وتبوؤ الدين الإسلامي لمكانة الصدارة في الهوية المغربية، فإنه شدد مباشرة بعد ذلك على تشبث الشعب المغربي بقيم الانفتاح والاعتدال والتسامح والحوار، والتفاهم المتبادل بين الثقافات والحضارات الانسانية جمعاء.

 

كما نص الدستور على التزام الدولة المغربية بحظر ومكافحة كل أشكال التمييز بسبب الجنس أو اللون أو المعتقد أو الثقافة… مھما كان؛ في تعبير واضح على تبني المغرب خيار الحرية الدينية وضمان التعددية داخل المجتمع بشكل لا يتنافى مع مكونات المجتمع المغربي واختيارات المغاربة الدينية التي عليها شبه إجماع، وهو الأمر الذي يؤكده أيضا الفصل الثالث من الوثيقة الدستورية الذي ينص على أن “الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”.

 

إن مسألة الحرية الدينية في التشريعات المغربية لا تقتصر على التنصيص الدستوري فقط؛ فالمادة 220 من القانون الجنائي المغربي تضرب على يد كل من يستعمل “العنف أو التهديد لإكراه شخص أو أكثر على مباشرة عبادة ما أو على حضورها، أو لمنعهم من ذلك”، وهو تعبير واضح على ضمان الدولة لحرية الأشخاص، مهما كانت ديانتهم، في ممارساتهم الدينية من عدمها.

 

ولكي تضمن حماية المسلمين الذين يشكلون أزيد من 90 بالمائة من المجتمع المغربي من زعزعة عقيدتهم باستعمال الإغراء أو استغلال هشاشة ظروف البعض منهم، تضمنت المادة نفسها عقوبات مماثلة لكل من “استعمل وسائل الإغراء لزعزعة عقيدة مسلم أو تحويله إلى ديانة أخرى؛ وذلك باستغلال ضعفه أو حاجته إلى المساعدة أو استغلال مؤسسات التعليم أو الصحة أو الملاجئ والمياتم…”، وبالتالي فالقانون الجنائي لا يجرم اعتناق الديانة ولكن يجرم التهديد والإكراه والإغراء للإجبار على اعتناق ديانة أو تغييرها.

 

بالإضافة إلى الشواهد التاريخية والضمانات القانونية للحرية الدينية في المغرب، تشكل إمارة المؤمنين الضمانة الروحية والدينية للتعددية الدينية واحترام الأقليات في المغرب. وقد حرص صاحب الجلالة منذ توليه عرش المملكة على ضمان الممارسة الدينية في أفضل الظروف، سواء للمسلمين أو لمعتنقي الديانات السماوية.

 

ففي رسالة سامية إلى المشاركين في أشغال المؤتمر حول “حقوق الأقليات الدينية في الديار الإسلامية .. الإطار الشرعي والدعوة إلى المبادرة”، المنعقد بمدينة مراكش سنة 2016، ذكر صاحب الجلالة الملك محمد السادس أنه وبوصفه أمير المؤمنين، فإن يضع على عاتقه حماية حقوق المسلمين وغير المسلمين على السواء، “نحمي حقوقهم كمتدينين بمقتضى المبادئ المرجعية الثابتة، ونحميهم كمواطنين بمقتضى الدستور، ولا نجد في ذلك فرقا بحسب المقاصد والغايات”.

 

إن حرية الممارسة الدينية في المغرب مضمونة لكافة المواطنين المغاربة وحتى المقيمين في المغرب بشكل قانوني، باعتبارها حقا مكفولا بقوة القانون وقوة مؤسسة إمارة المؤمنين، وهو ما أكد صاحب الجلالة في الرسالة السامية نفسها حين قال: “إننا في المملكة المغربية لا نرى مبررا لهضم أي حق من حقوق الأقليات الدينية، ولا نقبل أن يقع ذلك باسم الإسلام، ولا نرضاه لأحد من المسلمين. ونحن، في اقتناعنا هذا، إنما نستلهم الفهم الصحيح لمبادئ الدين كما نستلهم تراثنا الحضاري وتاريخ هذه المملكة العريقة في التعامل النبيل بين المسلمين وبين غيرهم من أتباع الديانات”.

 

كما دأب صاحب الجلالة حتى في زياراته الخارجية، خصوصا إلى الدول الإفريقية، على التأكيد على أن المشاريع التي يدعمها ليست موجهة للطائفة المسلمة فقط، بل لجميع المواطنين بحكم أن صفة أمير المؤمنين لا تقتصر فقط على المسلمين، بل على جميع الديانات.

 

ففي زيارته الرسمية إلى دولة مدغشقر السنة الماضية، أوضح صاحب الجلالة بما لا يدع مكانا للشك أن “ملك المغرب هو أمير المؤمنين، المؤمنين بجميع الديانات، والمغرب لا يقوم البتة بحملة دعوية ولا يسعى قطعا إلى فرض الإسلام”، مشددا على أن “الإسلام في الدولة المغربية معتدل وسمح”.

 

وينضاف إلى هذا الإجماع حول حرية الممارسات الدينية في المغرب، تأكيد المجلس العلمي الأعلى في وثيقة بعنوان “سبيل العلماء” على أن أبرز الحقوق والحريات التي كفلها الدين، حق وحرية الإيمان نفسه، مستشهدا بآيات من القرآن الكريم “لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي” (سورة البقرة)، “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف)، مضيفا أن مسؤولية الاختيار تبقى على الفرد والجماعة “وذلك من غير إكراه ولا إلزام على هذا الاختيار”.

 

ولم يدع المجلس العلمي الأعلى مسألة الردة من دون تفسير وبيان؛ بحيث نصت الوثيقة على أن “مفهوم الردة غير مرتبط باختيار العقيدة ولكنه ينطبق على الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها، والمستقوي عليها بخصومها؛ أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية”، إذن الردة المقصودة سياسية وليست فكرية. وبغرض القطع مع التأويل الخاطئ للمفهوم وربطه بالاختيارات الفكرية، شددت وثيقة “سبيل العلماء” على إشارة القرآن الكريم إلى الردة الفكرية في آيات عديدة ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية وإنما جزاء أخروي.

 

إن القول بعدم احترام المملكة المغربية لحرية الأقليات في الممارسة الدينية، إنما هو اتهام مغلوط يحتاج إلى الكثير من التدقيق. أما الطريقة التي يطرح بها النقاش حول حرية المعتقد في المغرب، فيعاب عنها هيمنة الغطاء الإيديولوجي والمزايدات السياسوية أكثر من الرغبة في النقاش العلمي البناء الهادف إلى الرقي بالممارسات الدينية وتعزيز قيم التعدد واحترام الاختلاف وقبول الآخر.

 

ولا يفوتنا التذكير في الأخير بالتزامات المغرب الدولية في مجال احترام الحرية الدينية، وهي اختيارات تبناها المغرب بشكل إيرادي من دون ضغط أو خضوع لأي كان، خاصة العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، والاتفاقية الدولية للقضاء على كافة أشكال التمييز العنصري، وكذا موافقة المغرب على التصريح الختامي لدورة مجلس حقوق الإنسان لسنة 2014 المتضمن للالتزام الدول باحترام الحرية الدينية.