الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

لا أحـد بمقـدوره الـتنبؤ بما ستـؤول إليه الأوضاع السياسية الساخنة في إسبانيا، والخاصة بالصراع بين برشلونة، عاصمة كطلونيا، الراغبة في تنظيم استفتاء “القطيعة” يوم فاتح أكتوبر 2017، وبين العاصمة الإسبانية مدريد وشعارها الوحدوي لكل التـراب الإسباني.

 

وقد سـال مداد كثير بين تصورات اتخذت أبعـادا سياسية واقتصادية واجتماعية وقــراءات تاريخية بأثــر رجعي منـذ القـرن 18 وسقوط مدينة برشلونة بعد حصار دام 14 شهرا قاده الملك البوربوني فيليب الخامس يوم 11 شتنبر 1714، وهو نفس اليوم الذي تخلده برشلونة سنويا تحت اسم “دْيــادا”.

 

ومن هنا يمكننا القول إنه صراع قــديم/ جـديـد، تميـز بالعديـد من لحظات الـكر والـفر والصراع على توزيع عادل للسلط بين المركز مدريد وبرشلونة. واعْـتُـرف لكطلونيا لأول مرة بالحكم الذاتي في شتنبر 1932، سيلغيه الجنرال فرانكو فيما بعد، لـيتـم احتواء الأمــر في دستور 1978 والاعتراف بنظام تجمعات الحكم الـذاتي لـ17 منطقة بإسبانيا، بما فيها كطلونيا، فالفصل 2 من الدستور جاء فيه “يقوم الدستور على وحدة الأمة الإسبانية التي لا تنفصل، وطـن كل الإسبان الـذي لا يقبل التجزئة”. أما الفقرة 2 من الفصل 3 فقد جاء فيها “تُعتبر اللغات الإسبانية الأخرى لغات رسمية داخل مجتمعات الحكم الذاتي وفقا لأنظمتها.”

 

لذلك يمكننا القول إن دستور 1978 كان واعيا بأهمية الاعتراف بالهويات الجهوية عبر الاعتراف بالهويات الثقافية المحليـة كضمانة دستورية.

 

ورغم ذلك لـم يخل الأمـر من محاولات الانفصال عن مدريد، سواء في كطلونيا أو غيرها كإقليم البـاسك، تُـؤججها طموحات سياسية فردية أو فئويـة حزبية أو مطالب اقتصادية تستجيب لها مدريد عبر قنوات الحوار والوسائط القانونية.

 

لكن الأمـر سيتطور بإعلان أرتـور ماص، رئيس كطلونيا، عن استفتاء الانفصال سنة 2014 ستعلن المحكمة الدستورية بمدريـد عدم قانونيته وعدم دستوريته. وأمام تمادي حكومة أرتور ماص وبرلمان كطلونيا في إجراء الاستفتاء سيتم اعتقال أرتور ماص وكبار موظفيه والحكم عليه بعدم مزاولة مهام عمومية لمدة سنتين بتهمة عصيان قرارات المحكمة الدستورية.

 

أكثر من هــذا، وتبعـا لاختصاصاتها الدستورية في الفصل 153، فـقـد طالبت محكمة الحسابات الإسبانية أرتـور ماص و10 من كبار المسيرين الكطلانيين السابقين بالجواب عن مصير مبلغ 5 ملايين أورو، تم تخصيصها لـتنظيم استفتــاء 2014 الذي طعنت فـيه المحكمة الدستورية، بمعنى آخر أنهـم تصرفوا في ميزانية دافعي الضرائب، رغما عن القانون والدستور.!!

 

لكن المثير في الأمـر أنه بعـد كل هــذه التبريرات القانونية والدستورية، ستُـعيد الحكومة الكطلانية الجديدة، برئاسة كارلوس بيغيمونت، نفس المحاولة بإعلانها تنظيـم استفتاء جديــد في فاتــح أكتوبر 2017، وستُخصص له في مارس 2017 مبلــغ 5.8 ملايــين أورو.

 

بـدورهـا، ستُعـيد حكومة ماريان راخــوي نفس الإجـراءات، بـدءا بالطعن في دستورية الاستفتاء لــدى المحكمة الدستورية، وصولا إلى إصدار النائب العام مانويل مازا أمر التحقيق مع 712 من عمداء مـدن كطلونيا بتهمة التعاون مع منظمي الاستفتاء والسماح باستعمال مقرات المؤسسات لإجــراء الاستفتاء، الشيء الذي جعل مانويل مازا ينصح العمداء بالتعاون مع المحققين تحت طائلة الاتهام بالعصيان في مواجهة المحكمة الدستورية، مما يعني سنوات من السجن.

 

من جهة أخرى، أمر النائب العام شرطة كطلونيا بالتحقيق في كل مظاهر العصيان ومنع إجـراء الاستفتاء.

 

المشهد سيتطـور في شكل لـعبة “الـقبضة الحديديـة”، مما سيؤدي إلى الـتهديـد بـتعليق نظام الحكم الـذاتي وإعلان حالة الاستثناء بكطلونيـا، وتعطيل كل الـمؤسسات الحكومية طبقـا للفصل 155 من الدستور، بالإضافة إلى حجز حوالي 10 ملاييـن بطاقة انتخابية واعتقال 14 موظفا، على رأسهم جوزيف خوسي، الـيد اليمنى لأوريول خوينكيراس، نائب رئيس الكطلان، وخوردي بوينيرو، رئيس مركز الاتصالات. ولـتضييق الخناق ستـقوم الـنيابة العامة باستـدعاء كارمن فـوركديل، رئيسة البرلمان الكطلاني، بتهمة العصيان لسماحها بتقديم قانون الاستفتاء بجلسة البرلمان، مع إمكانية أن يطالهـا العزل.

 

الـعديد من المراقبين وصفوا حيثيات وملابسات استفتاء أكتوبر 2017 بأنها نسخة كـاربونيـة لاستفتاء نوفمبر 2014. ومن ثم وجب التساؤل: ما الجديـد في الأمر؟ وهــل الإصرار على الاستفتاء تعبير عن طموحات سياسية شخصية وحـزبية، أم منـاورة سياسية من أجل صلاحيات أكثـر، أم هــو شيء آخــر؟

 

فلا أحد يُـمكنه إنكـار حقيقـة الـقيمة الاقـتصادية والاجتماعية والـثقافية لكطلونيا داخل الأمـة الإسبانية (حوالي 8 ملايين نسمة وتساهم بـ19 بالمائة من الناتج الوطني و30 بالمائة من صادرات إسبانيا و20 بالمائة من المداخيل الضريبية…)، كما أنه لا أحد يمكنه إنكـار أن ما وصلت إلـيه كطلونيـا من ازدهــار اقتصادي وإشعـاع ثقـافي وارتقـاء اجتماعي، بما في ذلك تنظيم برشلونة لأولمبياد 1992، كان بفضل السياسيين والإداريين في مدريــد. لــذلك فالانفصال هو عـامل ضعـف وليس عامل قـــوة.

 

لـكـن الجـديد أنـه في 2014 كانت لحكومة راخوي (الحزب الشعبي) أغلبية مـريحة ومنسجمة، أمـا في 2017 فـراخوي يقـود البــلاد بأغلبية هـشة، مما جعل الأحـزاب الإسبانية أمـام مُـنعطف تـاريخي يـسمو فـوق مطالب فئويـة أو حزبيـة، وهـو ما جعـل ثلاثة مـن أربـعة أحـزاب مهمة (الحزب الشعبي والاشتراكي والمواطنون) ضد الاستفتاء. أما حـزب بوديموس فـقد أثار عـدة علامات استفهام من موقـفه، خاصة أن نـوابه في كطلـونيا امتنعـوا عـن التصويت على قـانون الاستفتـاء.!

 

أضف إلى ذلك أن راخوي لـديه أغلبيـة مطلقة في مجلس الشيوخ، وبإمكانه اتخاذ تدابيـر وإجـراءات قانونية ودستورية كالفصل 155 مثلا، أي تعليق نظام الحكم الذاتي بكطلونيا.!

 

وبعـد كل ما سبـق، دعـونـا نُـطـل على بعض مـواد دستـور 1978 الإسباني وعـلاقته بأزمة كـطلونيـا وضماناتـه، خاصة أنـه دستـور حمل شعـار الـديمقراطية بعد فتــرة حكــم الـديكـتاتوري الجنرال فرانشيسكو فرانكـو، ما دامت الـدساتير في كل دول العالم الديمقراطي والمتحضر هي الفيْصل والحكــم.

 

فـالفصل 2، مثلا، ينص على أن “يقوم الدستور على وحدة الأمة الإسبانية التي لا تنفصل… ووطن لا يقبل التجزئة”، بـل جاء في تمهيـد الـدستور أن “الأمة الإسبانية تُـعلن عن إرادتها في حماية كل الإسبان وكل شعوب إسبانيا في ممارستهم لحقوق الإنسان وثقافـاتهم وتقاليـدهم ولغاتهـم ومـؤسساتهم”. ونـمُـر إلى الفقرة الثانية من الـفصل الأول الـقائـلة: “تعــود الـسيادة الوطنية للشعب الإسباني الذي تنبع منه سلطات الـدولـة”.

 

بعد هذا الـمرور الخاطف، نعتقد أن قـرار الاستفتاء حول انفصال كطلونيا يُـعارض مقتضيات دستـور الأمة الإسبانية، أكثر من هــذا فسورايا دي سانتامريـا، نـائبة مـاريان راخوي، رئيس الحكومة الإسبانية، أشارت في إطار مشاورات التفاوض مع نظيرها الكطلاني، أوريول خوينكيراس، إلى قـرار محكمة كـارلسروه بألمـانيا، التي منعت على بفـاريا الـترويج لـفكرة الاستفتـاء على اعتبار أن الـسيادة هي مـلك لكـل الألمان ولـيس لكـل منطقـة في الاتحادية الألمانيــة، وهــو بـالضبط ما جاء في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور الإسباني بأن السيادة للشعب الإسباني، وبالتالي لا يمكن لسكان كطلونيا أن يُـقـرروا لوحدهـم استقـلال كطلونيـا، بـل هـو شـأن لكل الإسبان خـارج كطلونيـا أيضـا، وبالتالي يجب استـدعـاء كل الـكتلـة النـاخبة في إسبانيا.

 

ويُـحسب للطرفيْـن معـا ضبط النفس واعتماد لغـة التظاهر والاحتجاج الـسلمي من طرف الكطلان، وتجنب الاصطدام مع قــوات الأمـن، لــكن بعض المنابر تناقلت إمكانية استعمال مضمون الفصل 8 من الدستور، الـذي يتضمن اختصاصات المؤسسة العسكرية الإسبانية ودورها في “الحفاظ على سيادة واستقلال إسبانيا والدفاع عن وحدتها الترابية ونظامها الدستوري.”

 

من جهة أخرى، فـتعدد القـراءات والتصورات لهذا الحدث التاريخي يجعل فاتـح أكتوبر بـداية نـفـق مظلـم سيجعل العـديد من المؤسسات محل مُـساءلة حول دورها في تدبير الأزمات السياسية الكبرى كالأحزاب (الفصل 6 ) وإمكانية حل بعض الأحزاب المخالفة لروح الدستور، أو دور مؤسسة الملـكيـة البرلمانيـة (من المادة 56 إلى 65)، كما شغلـتْ بـال العـديـد من الأطراف، خاصة في الاتحاد الأوروبي والمعاهدات الاقتصادية والجمركية والأمنية كالهجرة واللجوء ومحاربة الإرهاب والحدودية كشينغن والسياسات المالية والـنقدية كالأورو والديــون والأبــناك والتــأمين والأسواق التجارية خارج أوروبا وكـذا حلف الناتـو وغير ذلك من الملفات الشائكــة.

 

أيـضا، هـذا الاستفتاء لـه تـداعيات داخل إسبانيا، حيث إنـه في حالة إجرائه وانفصال كطلونيا عن إسبانيا، يُـنْتظر أن تتـأثـر جهات أخرى كالبـاسك بـالشمال والأنــدلس بالجنوب وغاليـسيا بالغرب. كما له تـداعيات خارج إسبانيا، حيث يمكن أن تنتقـل العـدوى إلى مناطـق كـورسيكا ولابــروطان بفرنسا، وسردينيا ولـومبرديا والـفينيتو بإيطاليا، واسكتـلنـدا ببـريطانيا، ولم لا الـكيبيك بكـندا، وغيرهــا.

 

فـإسبانيا ليست جـارا حدوديـا فـقط، بـل هي شريك في التاريخ وفي الاقتصاد. ولـنا فيها جالـيـة تقـارب 900 ألف مهاجـر مغربـي، لذلك لا نريــد إعـادة إنتاج صور تاريخية حزينة يـوم فاتح أكتوبـر 2017، لا نــريـد سماع صوت الرصاص أو القنابل المسيلة للـدموع، لا نـريـد مشاهــدة أجسام عـارية تمنع تقــدم الـدبابات في شـوارع برشلونة وخيرونا أو طرغونا.

 

لكـل هـذا لا نـريد لمسلسل القبضة الحديدية بإسبانيا الاستمرار الى ما لا نهايــة، ونفضل قـنوات الحوار والتفاوض والإنصات لصوت العقل وإعمال فصول الـدستور الإسباني كأسمى قـانون ارتضاه الإسبان بعـد سنوات من الديكتاتورية. كما لا نـريـد خنق صوت الهـويات الثقافية المحلية والاعتزاز بتاريخ ولغات الشعوب الإسبانية، سـواء في الباسك أو كطلونيا أو الأندلس أو غيرها.

 

وأخيرا لا نُـريد تصديق قـول جوليان أسـانـج (مؤسس موقع ويكيليكس) بأن يـوم فاتح أكتوبر ستشهـد أوروبـا إما ميلاد دولــة جديدة أو ستكون حـربا أهـليـة.