الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

 

أعادت الأحداث الإرهابية التي ضربت إقليم كاتالونيا في إسبانيا، والصدمة التي خلّفتها في صفوف الرأي العام سواء الإسباني أو الأوروبي إنتاج المشاهد الصادمة ذاتها التي خلّفتها الاعتداءات الإرهابية في باريس ونيس وبروكسيل وقبلها لندن ومدريد، وأثارت النقاش من جديد بخصوص الجاليات المسلمة ومسألة التطرف الديني الذي أصبح يهدد المجتمعات الأوروبية والجاليات المسلمة المهاجرة ويخطف من داخلها شبابا في مقتبل العمر.

 

وازدادت الصدمة عندما تبين أن من بين مرتكبي أحداث برشلونة وكمبريلس الإرهابية أطفال سقطوا في شباك إرهابيين متخفين تحت قناع الدين مهمتهم غسل الأدمغة والتغرير وبيع الوهم، ساعدتهم في ذلك ظروف اجتماعية خاصة جعلت من هؤلاء الشباب والأطفال يعيشون على هامش مجتمعات الحضارة والأنوار والقيم الكونية، وكذا فراغ في التأطير الديني جعلهم فرسية للتشدد والراديكالية.

 

ولعل أكثر الأسئلة التي تثار في النقاش العام بعد كل حدث إرهابي من هذا النوع، تخص بالدرجة الأولى الأسباب التي أدت إلى تنفيذ هذه الأفعال الشنيعة؛ فبالنسبة إلى هجوم برشلونة الإرهابي وتفكيك الخلية التي خططت له ذهب بعض الباحثين إلى كون السبب يكمن في غياب تنظيم حقيقي للإسلام في إسبانيا، وهو الأمر الذي طرح أيضا في أحداث مماثلة في دول أوروبية أخرى. بينما اتجه توجه آخر نحو الخروج من العلاقة السببية بين الإرهاب والإسلام المتشدد، ليذهب إلى أن هذه العمليات الإرهابية هي تتمة لعمليات إرهابية أخرى كان يعرفها الغرب سابقا، بحيث إن مجموعة من الدول الأوروبية نشأت فيها حركات إرهابية في الماضي إلى أن درجة اثنين من رؤساء الجمهورية الفرنسية تعرض للاغتيال على أيدي الفوضويين (سادي كارنو سنة 1894، وبول دومي سنة 1932)، إضافة إلى عمليات حركة العمل المباشر action direct التي خلفت كثيرا من الضحايا في فرنسا، وحركة الأولية الحمراء في إيطاليا، وبادرماينهوف في ألمانيا وإيرا في إيرلاندا وإيتا في إسبانيا… والأمر المختلف اليوم هو أن مرتكبي الإرهاب ليسوا من حركة الفوضويين أو المتشددين الشيوعيين أو من اليمين المتطرف بل أشخاص بأسماء عربية وينحدرون من جاليات مهاجرة ويدعون الانتماء إلى الدين الإسلامي.

 

إذا كانت معظم التفسيرات اليوم تذهب في اتجاه مسؤولية الإسلام في الغرب عن إنتاج التطرف وإخراج إرهابيين من أوساط الشباب المنحدر من أصول مهاجرة، فإن الحديث عن هذا الأمر يستدعي التوقف قليلا وعدم مجاراة تسارع الأحداث وهيمنة التحليلات المتسارعة في وسائل الإعلام، والرجوع قليلا إلى الوراء لفهم كيفية تشكل صورة الإسلام في الغرب وكيف تم التعامل مع هذا الوافد الجديد من لدن الدول الغربية، ثم مناقشة وضع الجاليات المسلمة في أوروبا.

 

ظروف تشكل صورة الإسلام في الغرب:

 

ارتبط حضور الإسلام في أوروبا في الحقبة الحديثة بموجات الهجرة التي عرفتها الدول الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية والتي فرضتها حاجة هذه الدول إلى يد عاملة أجنبية من أجل تحقيق الإقلاع الاقتصادي وإعادة بناء المدن التي دمرتها الحروب. وبعد أن أصبحت الجاليات المهاجرة القادمة من دول مسلمة، خصوصا من شمال إفريقيا، لها مطالب ثقافية ودينية، برزت الحاجة للاستجابة إلى المطالب الهوياتية من دون إتاحة الفرصة للدول الأصلية لهؤلاء المهاجرين لتبسط نفوذها عليهم عبر بوابة التأطير الديني فوق التراب الأوروبي.

 

وهكذا، بدأ الدول الأوروبية تجريب وصفات بحسب معايير كل دولة، وتبلورت الدعوات إلى إنتاج إسلام فرنسي، أو إسباني أو أوروبي… لكن النقاشات حول تدبير الإسلام طبعتها المزايدات السياسية على من له القدرة على صد البلدان الأصلية من التدخل في ملف الدين، بحجة المحافظة على السيادة الوطنية ومنع الاختراق (l’ingérence).

 

وقد ترك هذا الوضع فراغا في ميدان التأطير الديني، جعل التربة خصبة لمذاهب فقهية مشرقية متشددة في نظرتها للدين للتسلل إلى المجتمعات الأوروبية بدعوى تأطير الجاليات المسلمة. وبفضل ملايين البيترودولار استطاعت هذه المذاهب وضع اليد على شبكة كبيرة من المساجد ودعم نشر الكتب التي تعزز فكرها، وكذا استقطاب الشباب من أجل الدراسة في معاهدها.

 

وفي هذه الإطار، يجب التذكير بالدور الإستراتيجي الذي لعتبه حرب أكتوبر لسنة 1973 والتي كان من تداعياتها وقف الدول العربية تصدير البترول؛ وهو الأمر الذي جعل عددا من الدول الأوروبية تبحث عن التفاوض مع الدول المصدرة وتتقرب من دول خليجية للحصول على أسعار تفضيلية، بمقابل فتح المجال الديني أمام هذه الدول وتكريس حضورها في أوروبا. وما المركز الإسلامي في بروكسيل إلا واحدة من ثمرات هذا التفاهم السياسي، الذي رافقه اعتراف بلجيكا بالإسلام وتكليف هذا المركز بالإشراف على تكوين الأطر الدينية وتمثيلية المسلمين أمام السلطات البلجيكية. كما أدى استعمال الدين للتقرب من الدول البترولية أيضا إلى منح رخص بناء المراكز الإسلامية في كل من لندن ومدريد وروما إضافة إلى تسهيل عملية تمويل مجموعة من المساجد في الثمانينيات على الأراضي الأوروبية…

 

من جهة أخرى، قامت الدول الأوروبية في الثمانينيات في إطار تحالفاتها الإستراتيجية في إطار الحرب الباردة بتشجيع الإسلام السياسي، وتسخيره في تجنيد وتجييش “المجاهدين” في حرب أفغانستان. وقد رافقت هذه العمليات الميدانية في دعوة المسلمين إلى الجهاد غطاء إعلامي لتبرير هذا القرار، حيث تمت تسمية فصائل المجاهدين في الصحافة الأوروبية بمقاتلي الحرية وشبههم رونالدريغان بالمقاومين الفرنسيين للنازية…

 

لقد كان لعمليات تشجيع الجاليات المسلمة على الانخراط في هذه الحرب، سواء بتسهيل عمليات السفر إلى أفغانستان عن طريق باكستان من بيشاور أو عن طريق جمع الأموال في المساجد ومختلف المساعدات الإنسانية، تأثيرٌ على الجاليات المسلمة في أوروبا وحتى في الدول المسلمة، ظهرت تجلياته في انتشار الفكر الجهادي، وأيضا في دخول اللباس الأفغاني إلى أوروبا وتبنيه من لدن المسلمين باعتباره نموذجا إسلاميا كما قدمته الصحافة والخطاب السياسي في الغرب.

 

جانب آخر من دعم الدول الغربية للإسلام السياسي تمظهر في إيواء ومنح اللجوء لمتزعمي بعض التيارات الإسلامية، والضغط بها في السياسة الخارجية منذ الخميني الذي كان لاجئا في فرنسا قبل اندلاع الثورة في إيران، وقبله سعيد رمضان في سويسرا، مرورا بعمر عبد الرحمان وأبو قتادة وأبو حمزة المصري وعمر بكري في إنجلترا، حتى أصبح الهايدبارك في لندن منبرا سياسيا بامتياز لكل طوائف الإسلام السياسي والجهادي.

 

ومن بين العوامل التي أسهمت أيضا في تشكل صورة الإسلام في أوروبا، خصوصا لدى الجاليات المسلمة الحروب المؤلمة التي راح ضحيتها آلاف المسلمين وكانت سببا في تأجيج المشاعر، الكراهية والحقد وتضخيم الإحساس بالظلم وبالضعف… ونذكر هنا لأمثلة مذبحة صبرا وشاتيلا في لبنان في 1982، ومذبحة سبرنيشا في البوسنة والتي راح ضحيتها آلاف من المسلمين تحت أنظار جنود القبعات الزرق.

 

اعتراف منقوص بالمسلمين في أوروبا:

 

إن تفكيك الأحداث الإرهابية التي استهدفت مجموعة من المدن الأوروبية لا يمكن أن يتم من دون استحضار هذه العناصر التي رافقت حضور الإسلام في أوروبا. كما أن البحث عن الأسباب التي تدفع الشباب إلى العنف والإرهاب يقتضي أيضا تحليل السياق المجتمعي والثقافي الذي نشأ فيه هؤلاء الشباب والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي لم تؤهلهم ليكونوا مواطنين صالحين. كما يقتضي أيضا مساءلة النموذج الأوروبي في التعامل مع الجاليات المسلمة، خصوصا في شقه الحقوقي.

 

مثلما كان عليه الأمر بعد هجمات باريس وبروكسيل ونيس، وتحت تأثير الصدمة والغضب سعى البعض إلى إلصاق تهم جاهزة وتوزيع صكوك الإدانة إلى مجموعات مهاجرة بناء على ديانة مرتكبي هذه العمليات الإرهابية أو بلدانهم الأصلية، كشكل من أشكال التنصل من المسؤولية ورميها على الآخر المختلف، على الرغم من أن هؤلاء في غالبيتهم ولدوا وترعرعوا ودرسوا في البلدان الأوروبية وأصبحوا من مواطنيها.

 

هنالك مجموعة من النقاط التي يمكن أن تكون مشتركة بين الشباب المرتمي في حضن الإرهاب والذي تم الزج به في عمليات إرهابية تزعزع استقرار المجتمع ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتقبلها أي توجه ديني أو ثقافي، وأبرز نقطة يشترك فيها هؤلاء هي انتماؤهم إلى أحياء معزولة على هوامش المدن، حيث البطالة تضرب نسبا عالية وحيث انتشار الجريمة والمخدرات والهدر المدرسي، بعيدا عن الحضارة والثقافة والفن والرياضة؛ وهو ما جعل جل المتورطين في العمليات إرهابية من أصحاب السوابق العدلية ومن نزلاء السجون ومن رواد عالم الإجرام.

 

إن التدقيق في الموضوع يبين أنه لا يمكن أن تحمل المسؤولية عن الأحداث الإرهابية على طرف دون آخر، بل هناك نوع من المسؤولية المشتركة بين الإسلام الذي لم يعمل على تجديد خطابه وملاءمته مع السياقات الأوربية، وكذا بين الدول الأصلية التي لم تبلور سياسات عمومية كفيلة بمرافقة الأجيال الصاعدة المنحدرة من جالياتها، وكذلك بين الدول الأوروبية التي تتحمل مسؤولية أيضا باعتبار هؤلاء الشباب المتطرف من مواطنيها ودرسوا في مدارسها وعاشوا في مجتمعاتها.

 

فعلى الرغم من أن كل الدساتير الأوروبية تضمن حرية المعتقد، وتكفل كل القوانين ممارسة الشعائر الدينية، فإن هناك هوة ساحقة بين مقتضياتها وبين الواقع الحقيقي للمسلمين؛ فأماكن العبادة التي تجعل المسلمين يؤدون ممارساتهم الدينية بشكل كريم غير متوفرة، والمساجد الحقيقية معدودة على رؤوس الأصابع حيث لا تتجاوز العشرين في بلد مثل فرنسا يضم أكثر من خمسة ملايين مسلم والبقية عبارة عن مبان قديمة ومرائب… والحال ذاته بالنسبة إلى إسبانيا، حيث لا يتجاوز عدد المساجد الحقيقية سبعة مساجد، وفي منطقة كاتالونيا التي تضم 400 ألف مسلم لا يوجد أي مسجد بمعايير المساجد الحقيقية التي تضطلع بالتأطير الديني والانفتاح الثقافي على محيطها، بل هناك فقط أماكن للعبادة غير مناسبة ولا ترقى إلى حقوق المواطنين الأوروبيين وللمهاجرين في الممارسة الدينية؛ أما في إيطاليا فلا يكاد يعرف فيها مسجد غير مسجد روما.

 

من جهة أخرى، فإن أغلب الدول المعترفة بالإسلام لا تبلور مبادرات تجسد هذا الاعتراف على أرض الواقع، كما هو الشأن بإسبانيا التي وقعت اتفاقية سنة 1992 مع الجالية المسلمة إلا أن أغلب بنود هذه الاتفاقية ما زالت حبرا على ورق، ومضامينها لم تجد بعد طريقا إلى التنفيذ، خاصة في شقها المتعلق بتدريس الإسلام في المدارس الحكومية والإرشاد الديني في المؤسسات الحكومية.

 

نقض أطروحة ربط الإرهاب بدول الأصل:

 

إن التوقف على حقيقة الإسلام في أوروبا من خلال إظهار الخلفيات السياسية والمجتمعية التي تحكمت في تشكله على صورته اليوم، وكذا عرض مظاهر من واقع الممارسة الدينية للمسلمين في أوروبا، يظهر بأن الإسلام في الغرب يعاني مجموعة من الاختلالات الهيكلية تجعل من الصعب توفير التأطير اللازم، خاصة للشباب؛ وهو ما يجعلهم فريسة سهلة لتجار الموت من الإرهابيين.

 

كما أن الحديث عن علاقة سببية للأعمال الإرهابية بالانتماء إلى الدين في حد ذاته أو الانتماء إلى جالية بلد معين يبقى تحليلا سطحيا ينم عن جهل بالتاريخ وبالواقع؛ فلا يمكن للمنطق أن يتقبل أطروحة تصدير دول المغرب العربي للمتطرفين الدينيين لأوروبا، لسببين أساسين: أولها أن المتورطين في أعمال إرهابية لم يعيشوا في بلدانهم الأصلية مدة طويلة كافية لتشكل هويتهم الدينية، فهم إما هاجروا في سن مبكرة رفقة آبائهم، أو ولدوا وترعرعوا في أوروبا. ومن ناحية أخرى، فإن المدرسة الفقهية التي ينهلون منها شرعية ممارسة العنف بعيدة كل البعد عن المدرسة المتبناة من لدن البلدان الأصلية للمهاجرين؛ فأغلب هؤلاء ينتمون إلى المغرب العربي وإفريقيا ما وراء الصحراء، وبالتالي فإن المذهب المنتشر في هذه الدول هو المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية مع التصوف السني، وهي مدرسة وسطية ترفض العنف والتكفير وتعزز الجانب الروحي وتحث على احترام الآخر وعلى التعايش بين جميع الديانات.

 

فقبل أن نقوم بإلقاء التهم ورمي المسؤولية على ما يقع من إرهاب وعنف على الدين أو على دول الأصل، حري بنا أن نقوم جميعا بالتنظيف أمام أبوابنا، وأن نقر بالمسؤولية المشتركة حتى يتسنى لنا التعاون من أجل إيجاد حلول جدية للأسباب الحقيقية لهذا الإرهاب الفظيع.