شـاءت الأقــدار لـمجموعة من شبـاب مغـرب النصف الأول من الـقرن الـماضي أن يـصعـدوا طـوعــا أو كُــرْهـا فــوق شـاحنات عسكريـة فـرنسيـة مرت من أسـواق ودواويـر وقُــرى المغرب، لـتنقـلهـم إلى مـينـاء مـدينـة مـارسيليـا الـفرنسيـة عبـر مينــاء الــدار البيضاء.

 

وبعد فـتـرة تـداريب عسكريـة قـصيرة سيُـزج بهـم في أهـوال حـروب كبرى وبمهـام في الـخطوط الأولى لــجبهات الـقتـال والحـرب، شاركـوا بـأسماء وألـقاب كثيــرة كـ “الـصباحي” و”الكــوم” وغيـرها في الحـربيْـن العالميتيـن الأولى والثـانيـة، وكــذا في الحرب الهنديــة ـ الــصينية، أو ما يعـرف بلانــدوشيــن.

 

هــؤلاء الـشباب كانــوا مجموعـة من الـفلاحين والـحرفييـن ورُعـاة الأغنــام من أســر فقيــرة، احتمــوا بـالجنـديـة وحمل الـسلاح في وجـه الفـقـر والجـوع والحاجة، وركبــوا مغامـرة الـسلاح في وقـت كانت فيه دول أوروبـا الغـربيـة تحتاج إلى أيــاد قـويـة تـحمل ســلاح الـتحرير والحريــة في وجه الأنظمة الـشموليــة، ســواء الـفاشية أو النــازيــة.

 

سقطـوا هنــاك قـتلى بالمئات وجرحى بالآلاف، ومثلهــم من ذوي العاهات المستديمة، سالــت دماؤهـم في غـابات وأزقــة وقــناطر ومــدن وقــرى فـرنسا وبلجيكـا وايطاليــا وغيرهــا، بــل حتى في فيتنـــام، ضمن الجيش الفرنسي.

 

واختلطـتْ دماؤُهــم بـتـراب أوروبــا حتـى ارْتــوتْ وأيْـنعـتْ أشجـارهــا ووُرُودهـا وتــنفـسـتْ شعـوبـهـا الـحـريـة.

 

الـيـوم، وبعــد مــرور كل هــذه السنوات، لازال هــؤلاء “المحاربون الـقدامى” يتعرضون لأبـشع تـهميش وإقصاء من الحياة العامة، يـسكنون في بيــوت منفـردة وبــرواتب لا تكفيهـم حتى لـمنتصف الشهـر، ومجبــرون على البقــاء في فــرنسا، مثـلا، وإلا سقــطت المساعدات الاجتماعية!

 

هـُمُ الــيوم في وضع يُـشبــه “المنفى الإجباري”، بعــد كــل تـضحياتهــم. هـُـمُ الـيــوم في وضع يحمـل عنــوان الــوجه الـبشـع لعــدم العــرفـان والاعتـراف بجميـل جيــل ضحى بشبـابـه وأهـلـه ووطنــه لــتحيـا الحريــة!

 

كــانــوا رفـقــاء في خنـدق واحـد ورفـقاء الـسلاح إلى جانـب الجنـدي الفـرنسي وجنـود مستعمرات فرنســا في إفريقيــا من أجـل تحريــر ايطاليــا، وفـرنسا، وبلجيكــا، وكـل أوروبـا.

 

كــانــوا يحلمُــون جميعا في لـيـالــيهــم البــاردة في الغـابـات والجبــال والسهول وتحت القناطــر بــالـعـدل والـمساواة والحريــة، وبـغــد أفــضل.

 

اليــوم، نحـن وغـيـرُنا يــعرف بـالتفاصيل المُملــة حقـيقـة معانـاتهـم مع الـراتب الـزهيـد، ومع الـتغطية الصحية، ومع حرمانهــم من دفيء العائـلـة بالمغرب.

 

لــم تنصفهم صفحات التــاريخ، كما بخـل عليهـم الـعديـد من الـفنانين والكتاب والأدبــاء… بـتخصيص بعض الجُهْــد لإنـتاجات فــنيـة وأدبـيـة لــتخليـد صفحات من التــاريخ الانـساني الـمشترك بين فـرنسا والمغرب، ولـتمجيــد بطــولات فـرديـة وجماعـية للـجنـود المغاربة في سـاحات الحرب بشهـادة قـيــاداتهـم العسكريـة الفـرنسية، بــل وبشهادة أعــدائهــم أيضا.

 

الـيوم، عنـدما نـلتـقي بأحدهــم يـقـف هــو مــزهـوا ومُفْـتخـرا بماضيه وبـنيـاشيـن تــرقص على صدره فـرحـا، ونحمـر نحن خجـلا لجحـود التــاريخ وعــدم رد الجميل بالجميل.

 

وكـأن هنــاك حاجـزا نـفسيا يـمنع الـجميع مـن الـتـقـدم خُطـوة إلى الأمـام وتـقـديـــم الـتحيـة العسكرية لهم بطريقـة تـليـق بتـضحياتهـم وإعطائهـم مـا يـليـق بهـم مـن تـشريـف وتكريــم يفــوق كـل عـائــد مــادي، وإطــلاق أسمائهــم على ساحــات وشــوارع أوروبا والمغرب، ومنحهــم “جنسيـات فخريــة” لكل الـدول التي حاربوا من أجل حريتهــا، لا نُـبـالــغ في هــذا ولا نـُـزايــد.

 

لكــن وجـب طـرح الــسؤال: مـاذا لــو لم تصعـد كل تــلك مئات الآلاف من الشباب المغربي إلى الشاحنات العسكـرية الـفرنسية؟ ومــاذا كان سيكـون عليه وضع فـرنسا وأوروبــا الــيــوم؟ وهــل كُــنا سنُـشاهــد كـل مـظاهـر الــتقـدم والـتطـور والحريـات وتعــدد الانـتماءات السياسية والـنقابيــة والإيـديـولوجيات الـفكريــة بأوروبا؟ وهــل كُــنا سنعــيش لـحظـات يـتشــدق فـيهـا الـيــوم وبــدون خجل زعماء اليـميـن الـمتطــرف بـشعارات الـديمقراطية وحمايـة الحريـات من جهـة، وبطــرد المهاجريــن مــن جهـة ثـانيــة؟

 

فـمـاذا لــو لـم يـصعـدوا إلى الـشاحنـات الـفرنسية والـتقــدم في الـخطـوط الأمـامية فـي “حملـة ايطاليــا” و”حملة فــرنسا” وكـسر خــط الكـُوسْتـاف لـتحـريــر رومــا، والـتـقـدم نـحـو فـرنـسـا وطــرد حكومـــة فـيـشـي المـواليــة للنــازية الألمــانية؟

 

إن وضعهــم الـيـوم الـشبيـه “بـالإقامـة الإجباريـة”، وحرمانهـم مـن مُعانقـة أهـلهـم وقـتمـا شـــاؤوا بــدون قـيـود أو شــروط بيــروقــراطـية، هــو وضع يُـسائل كــل الأدبيــات الحقوقـية والإنسـانية والآلـيات الــديمقراطية التي ساهموا هُـمْ في إرسائهـا مـن خلال تغييـر وجـه العالـم وهـــزم رمـوز الـشمولية والدكتاتوريــة والتطرف السيـاسي.

 

لـقـد صدق فيهـم قـولـه تعـالى: “رجــال صدقــوا ما عاهــدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظـر وما بـدلــوا تبــديلا”، صدق الله العظيم.