الدكتور عبد الله بوصوف الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج.

 

يبدو وكأننا فعلا حول طاولة الشطرنج بلون سياسي، يلتفت حولها لاعبون احترفوا السياسة، واحترفوا اللعب بعواطف الشعوب، واحترفوا صناعة الخوف وزرع الكراهية…. وفي سبيل الوصول إلى السلطة والحكم، فهُمْ مُستعدون للتحالف حتى مع الشيطان!

 

وهناك أحداث عديدة تسوقنا صوب خُلاصات مفادها أن الإرهاب يخدم أجندات سياسات اليمين المتطرف، كما أن شعارات اليمن المتطرف تخدم الإرهاب في صورة تماهي ثُنائية التمساح وطائر الزقزاق؛ فالتمساح في حاجة ماسة إلى تنظيف أسنانه من بقايا الطعام، مما يجعله تحت رحمة طائر الزقزاق الضعيف الذي يتجول بكل حرية بين أسنان وأنياب التمساح ويُخلصه من بقايا الطعام بأكلها.

 

مثل هذا القول ليس بنفخ في الكلام أو مبالغة، ويكفي التأمل في صعود الأسهم السياسية لحزب الجبهة الوطنية بفرنسا من 1% إلى 25 %، للوقوف على دلائل إثبات هذه الصورة.

 

إن محترفي السياسة هم قناصون لكل الأحداث والمواقف؛ فقُبيل تشريعيات هولندا في مارس 2017، كانت كل استطلاعات الرأي في صالح خيرت فيلدرز، زعيم اليمين المتطرف الهولندي، المعروف بعدائه للإسلام وللمسلمين والمهاجرين، وهو برنامج لاقى امتدادا كبيرا وسط الناخب الهولندي. لكن حادث منع هبوط طائرة وزير الخارجية تركيا، وكذا منع وزيرة الأسرة التركية وطردها خارج الحدود الهولندية جعل الأمور تأخذ منحى آخر. فقرار منع الوزيرة من تنشيط اجتماعات مع الجالية التركية، لتسويق تعديلات الدستور التركي، تم بقرار من مارك روتة، رئيس حكومة تحالف اليمين الهولندي؛ وذلك باسم السيادة الهولندية والهوية الوطنية..

 

هنا، نلمس احترافية كبيرة وقراءة متقدمة للأحداث؛ فالتحالف الحاكم في هولندا حقق نتائج مهمة في الاقتصاد، وأخرج هولندا من الأزمة بالإضافة الى مؤشرات إيجابية على المستوى الاجتماعي، إلا أن كل استطلاعات الرأي كانت تُقدم فيلدرز اليميني المتطرف على خصومه السياسيين لأنه كان يصرخ باسم الهوية الوطنية والحماية وغيرها من مفاهيم اليمن المتطرف..

 

ولم يكن أمام مارك روت سوى اقتناص فرصة منعه طائرة وزير الخارجية التركي وكذا منع وزيرة الأسرة من الذهاب للقنصلية التركية في هولندا وكل ذلك باسم السيادة الوطنية والهوية الهولندية؛ وهنا يُدشن مارك روت دخوله الكبير لمنطقة فيلدرز، أي الدفاع عن الهوية الهولندية. وبعد تنشيط المعركة الانتخابية بشعارات متطرفة إيديولوجية وسياسية، سينقلب الأمر لصالح تحالف مارك روت ويخسر فيلدرز معركته السياسية يوم 15 مارس 2017.

 

الحدث نفسه سيتم استخدامه في تركيا، حيث لوحظ رفع الوتيرة إلى درجة أزمة دبلوماسية وطرد السفير الهولندي في تركيا، وجعلوا من التعديلات الدستورية معركة مُقدسة دينية ووطنية وسيادية… وكان الهدف من كل هذا التصعيد، سواء في هولندا أو تركيا، هو الرفع من الإيقاع الانتخابي لصالح تحالف مارك روتة ولصالح الدفع بنجاح استفتاء 16 أبريل 2017 حول التعديلات الدستورية؛ وهو ما تم، بالفعل، بنتيجة 51% من سكان البلاد.

 

سيتكرر المشهد نفسه على بعد 3 أيام فقط قُبيل رئاسيات فرنسا (23 أبريل)، لتشتعل الساحة السياسية والإعلامية بهجوم إرهابي في ساحة الشانزيليزي الباريسية، ذهب ضحيته رجل شرطة وجرح آخر؛ حيث سيحاول اليمين المتطرف بزعامة مارين لوبين الاستفادة من الحادث الإرهابي بزيادة جرعة كبيرة من المخاوف الأمنية بشكل يؤثر في الناخب الفرنسي، لضمان الصدارة في الرئاسيات الفرنسية.

 

لكن يقظة وذكاء الناخب الفرنسي جعلته يُفوت الفرصة على جناح اليمين المتطرف، ويُمهد الطريق كما كان منتظرا لماكرون مرشح «حركة ماضون إلى الأمام» ذي 39 ربيعا للسكن في قصر الإليزيه بعد الجولة الثانية في 7 ماي كأصغر رئيس للجمهورية الفرنسية، بعد نزال ضد مارين لوبين زعيمة الجبهة الوطنية الحائزة على المرتبة الثانية في الدورة الأولى.

 

وهي الصدفة نفسها تحكيها الانتخابات التشريعية الإسبانية في سنة 2004، حيث شهدت محطة القطار توشكا رينفي بالعاصمة مدريد قبل 3 أيام على الموعد المذكور انفجارات ضخمة راح ضحيتها حوالي 191 شخصا وخلفت حوالي 1755 جريحا، تبنت “القاعدة” ساعتها المسؤولية عن أحداث قطار مدريد. وكان من أبرز نتائجها سقوط سياسي مدوّ لخوسيه ماريا أثنار، زعيم الحزب الشعبي، وبزوغ نجم خوسي لويس زاباتيرو، رئيس الحزب الاشتراكي، الذي سيظفر بالانتخابات ويترأس الحكومة.

 

وبعيدا عن فرضية البحث عن الانسجام الحكومي في التفاوض بشأن البريكسيت، فهل هي الصدفة نفسها التي جعلت رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي تُعلن في أبريل 2017 عن انتخابات مبكرة في 8 يونيو من السنة نفسها بعد الحادث الإرهابي أمام مبنى البرلمان البريطاني وقيام خالد مسعود (52 سنة) بدهس عدد من المارة مخلفا 5 قتلى و40 جريحا؟ وهي العملية الشبيهة بكل من نيس الفرنسية وبرلين الألمانية!

 

إن سعي اليمين المتطرف إلى احتكار شعارات الدفاع عن الهوية الوطنية والحماية يجعله يترصد لكل الأزمات والكوارث والأحداث الإرهابية، من أجل تأثيث شعاراته الخطابية والانتخابية الداعية إلى زرع الخوف والكراهية في مجتمعات أوروبية اكتسبت طابع التعددية الثقافية والدينية. وبالمقابل، نجد أن الجماعات الإرهابية تُسدي لليمين المتطرف خدمة تفي بالغرض المطلوب وزيادة، بل بمواصفات عالية ومتنوعة؛ لكن من المهم التفكير في المستقبل من خلال طرح السؤال: ماذا بعد؟ فكل الجاليات المسلمة في أوروبا، وفي مقدمتهم مغاربة العالم، هم متدينون وسطيُون ويسعون إلى اندماج يحفظ لهم مقومات الهوية الأصلية في بلدان اعتنقت مبدأ فصل الدين عن الدولة… لهذا، لم تستطع هذه الجماعات الإرهابية الوصول إلى كل الجاليات المسلمة، بل فقط إلى تدجين واستغلال الضعف لدى بعضهم باللغة العربية وبتعاليم الدين الاسلامي، وهم مجموعة من الشباب سواء داخل السجون الأوروبية أو من ضواحي المدن، سواء عن طريق استعمال الثورة الرقمية والتحكم عن بُعد أو عن طريق تدجين “ذئاب منفردة” أو ما يعرف بالكُوتْش الافتراضي.

 

إن الحفاظ على جو يغلب عليه الاحتقان الاجتماعي بين الجاليات المسلمة ومجتمعات الإقامة يبقى هو الهدف المشترك بين الجماعات المتطرفة وبين اليمين المتطرف، بالإضافة إلى تأجيج صراع فكري اتخذ عدة مظاهر وصور كصراع الحضارات أو صدامها!

 

لذلك، نلاحظ أن سلطات دول الاستقبال تقوم، بعد كل حادث إرهابي تتبناه جماعات إسلامية متطرفة، بتضييق الخناق على المهاجرين بعد حملات إعلامية واسعة مسمومة؛ كالتلويح بسحب الجنسية مثلا وغيرها، مما ينتج عنه رد فعل من لدن غالبية الجاليات المسلمة المسالمة، وذلك باصطفافها إلى احزاب وهيئات تتبنى مشاكل المهاجرين وتدافع عنهم. وهذا، بالضبط، ما تسعى إليه الجماعات الإسلامية أي الاصطدام بدل التعايش وأن تكون رقما يحدد الخريطة السياسية بدول أوروبا وتتحكم فيها ويُؤثر فيها عن كل تمرين ديمقراطي، وهي الأدبيات نفسها التي يتبناها اليمين المتطرف الباحث عن التمدد وسط الناخبين واحتكار الدفاع عن الهوية الوطنية.

 

ومن حسن الحظ أن العديد من أفراد النخبة والعامة ما زالوا يتنفسون عقلا ومنطقا، ويشتغلون ليلا ونهارا من أجل نشر حسنات العيش المشترك في هذا العالم، ويعملون من أجل تحرير هذا العيش المشترك من أفكار ظلامية ومتطرفة، سواء كانت إديولوجية أو دينية.

 

ولهذا، ما زال محترفو صناعة الخوف والكراهية، سواء من صفوف الإرهابيين الإسلاميين أو اليمين المتطرف، لم يعلنوا عن نهاية الجولة الأخيرة في لعبة الشطرنج السياسي لصالحهم، وبأن “الشيخ مات”.. لهذا، سقطوا تباعا في هولندا في مارس وبفرنسا في أبريل، ويُنتظر ذلك أيضا في ألمانيا في سبتمبر 2017.