الدكتور عبدالله بوصوف : الأمين العام لمجلس الجالية المغربية في الخارج.

 

لا يُـمكن قراءة الـتقريـر الـسنوي لمنظمة العفـو الـدولية (أمنيستي)، الـذي نُـشر يوم 22 فبراير 2017، بمعزل عن التحولات الجيوسياسية الكبـرى وأيضا عن الـتدافع الإيـديولوجي الرهيب الذي عرفته سنة 2016؛ حيث ساهمت عوامل عدة، منها السياسية والاقتصادية والثقافية، وكذا المناخية، في موجات نزوح وهجرة جماعية غير مسبوقة بحـثـا عن مكـان آمـن.

 

أقــول، هذه العوامل وغيرها ساهمت في تغيير معادلات سياسية تقليدية، وبروز حركات سياسية احتجاجية، وتمددت أفكار اليمين المتطرف الداعي إلى الكراهية وصناعة الخوف من الآخر، وخاصة الآخر المسلم، مما ساهم في تسويـق ثـقـافـة “نحْـنُ ـ ضد ـ هُـم”.

 

التقرير السنوي لهذا العام (2017) جاء مختلفا وحمل اتهامات صريحة إلى أشخاص بعينهم، كالرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتركي أردوغان والهنغاري فيكتور اوربان وكذا الفليبيني رودريغو دوتيرتي… حيث تجمعهم ـ بحسب التقرير ـ قواسم مشتركة كسياسات “شيطنة الآخر” والتراجع عن مبادئ حقوق الإنسان على المستوى العالمي…

 

تكلـم تقريــر العفو الـدولية لسنة 2017 بـلغـة الأرقـام، وأدان 23 دولـة بجرائم الحرب و22 دولـة كانت مسرحا لقتل المدافعين عن حقوق الإنسان، و36 دولـة أعادت لاجئين إلى دولهم قد تتعرض فيها حقوقهم للخطر… وعرفت 159 دولـة خروقات جسيمة لحقوق الانسـان.

 

تقرير أمنيستي لـسنة 2017 تضمن 487 صفحة، كان نصيب المغرب فيها حوالي 4 صفحات بمضمون جعلـنا نتـوقف عنـده كثيـرا بكـل موضوعية، هــذا مع تـسليـمنا المبدئي بـأهمية ودور المنظمات الحقوقية في الدفاع عن حقوق الانسان في العالم.

 

وعلـيه، فلا يجب أن تأخذنـا دهشـة أرقـام الانتهاكات وأصابع الاتهـام إلى تنزيل تقارير منظمة العفو الدولية أو غيرها “بمنزلة الملائكة”، بل نجـد أن طرح سـؤال الاستقلالـية والحياد في تقارير المنظمات الحقوقية هـو ضرورة منطقية وتاريخية، وأن “طابع حصري” ليس حكـرا على أمنيستي أو غيرها فقـط.

 

لـقد فقدت التقارير الحقوقية الكثير من بـريقها، وأيضا الكثير من عُنصر المفاجأة بفضل الثـورة الرقميـة وعـولمة المعلومة؛ بحيث أصبح العديد من المراقبين يتوقعون مضمون الـتقرير السنوي حتى قبل صدوره.

 

فـالـفقـرة الخاصة بالمغرب، مثلا، لـم تأت بجـديـد يشُـدُ الأنفـاس؛ لأن أغلب القضايا المُثارة والأسمـاء الواردة في التقرير قـد تـداولتها الصحافة المغربية بكل ألوانها، وكانت مادة دسمة شغلتْ شعب المواقع الاجتماعية، خاصة “فيسبوك”.

 

كما أبانت عن عدم مُسايـرة التقرير للعديد من أوجه التغييـر، بين مغـرب قطع مع عهد تازمامارت ودار المقري ودرب مولاي الشريف ومغرب المصالحة مع الـذات من خلال مسلسل العدالة الانتقالية عن طريق هيئة الإنصاف والمصالحة، ومغرب تجريـم الاعتقال القسري والعنف من خلال تعديل القانون الجنائي، وإصدار قانون للصحافة يُـجرم اعتقال الصحافيين تـدعيما لحرية التعبير ومغرب التنوع والتعدد الثقافي… وغير ذلك كثيـر…

 

أبانت أيضا عن عدم التخلص من عقلية “الـقلم الأحمر” وتوقيـع شهادة حُـسن السيـرة والسلوك في مواجهـة دولـة مثـل المغرب، الذي يسعى جاهـدا إلى بناء دولـة الحق والقانون والتنمية والكرامة، رغم العديد من المعيقات وإكراهات سيـاسات اجتماعية واقتصاديـة تجعلنـا الـيوم نعيـش، بيـن الحين والآخـر، تـدافعا اجتماعيا، واحتجاجات قطاعيـة من أجل تحسين مستوى العيش ومحاربة البطالة والسكن اللائق والصحة والـولوجيـات وتقويـة الـبنيـة الـتحتيـة والحق في بيـئـة سليمـة، وأيضا دمقرطـة وتخليـق السيـاسـة ودعم المجتمع المدني … وهو تـدافــع صحي ومطلوب في مجتمع يـتطلع إلى حيـاة أفضل، لكـن في ظـل هامش كبيـر من الـمسؤوليـة أيضا.

 

أمـا المثيـر، فهـو كيف أن الـفقـرة ذاتها استطاعت ذكـر احتجاجات سكان منطقة “سيدي بـيبـي” بـأكادير مثلا، ولم تجرؤ على ذكر أسماء المسؤولين عن جرائم الحرب وضد الإنسانية، وعن جرائم التحرش والاغتصاب والاختفاء القسري وقتل المعارضين… داخل مخيمات البوليساريو بتندوف منذ سبعينيات القرن الماضي وإلى الآن!

 

غفلت أمنيستي انتقـاد طريقـة “تعييـن” ابراهيم غالي، ولم تندد بعـدم مثولـه أمـام القضاء الإسباني بتهمـة اغتصاب صحراويـات، أو بجرائم الاغتصاب المثارة من طـرف جمعيات حقوقـية أوروبيـة بجنيـف، بل اكتفـت بصياغة حافظت عليها في أكثـر من تقـريـر سنـوي سـابق!

 

كما ذكرًتْ بأزمة تصريحات “بان كيمون” غير الحياديـة، دون أن تـذكـر بموجات المسيـرات الاحتجاجية داخل المغرب أو لمغاربـة العالـم في أكثر من عاصمة دولـيـة!

 

لـذلك، فـسؤال استقـلالـية وحياد تـقارير أمنيستـي يـفرض نفسـه على كل قـارئ نـزيــه، خاصة إذا عرفنا أن منظمة العفو الدولية، ومقـرها بلنـدن، تعمل كمستشار للعـديـد من الـمنظمات كالأمم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع لهـا واليـونيسكـو والاتحاد الأوروبي، وغيـرها من المنظمات الأمريكية. مما يجعـل سـؤال استقـلالية الـتقاريـر تجاه كل هذه المنظمات والدول التابعـة لها سـؤالا مشـروعا.

 

أضف إلى ذلك أن منظـمة العفو الدولية، وهي غيـر حكومية ومستقلة، تُـمول عـن طـريـق “التبرع مجهـول المصدر”، مما يجعل أمر البحث عن مصادر التمويل غاية في الـصعوبة، وهـو فقـط لحمايـة “مبـدأ الاستقلالية”

 

لهـذا نجدها لجأت إلى مؤسسات “الظل” وأنشأت، إلى جانب منظمة العـفو الـدولية الأم، كـلا من “العفو الـدولية الـمحدودة” و”العفـو الدولية الخيرية المحدودة”. وهذه الأخيرة مسجلة كهيئة خيـرية، ومن هُــنا تـمر الـتمويلات من طرف المجموعات الدولية وأيضا الـتعاونية!

 

هنـاك الـعديـد من الـنقط الـسوداء في بيـاض صفحة منظمة العفـو الـدوليـة، ويكفي أن نُـذكـر بـإريـن خـان، وهي رئيسة سابقـة لمنظمة العفو الـدولية ناشطة حقوقية لمحاربة الـفقـر، فقـد توصلت عن نهايـة خدمتهـا بمبلغ 600 ألف دولار، مما اعتبـره المراقبون فضيحة بكل المقاييس.

 

وتبقى أشهـر قضايا تنازع الـمصالح في العفو الـدوليـة هـي قـضية سـوزان نُـوسيـل؛ حـيث كـانت مـديرة فرع منظمة الـعفو الدولية بأمريكـا، وفي سنـتيْ 2012 و2013 كانـت مـساعـدة خاصة لوزيـرة الخارجية الأمريكية السيـدة هيـلاري كـلينتـون.

 

وهكذا ساهمت نـوسيـل، وعبـر منظمة الـعفـو الـدولية، في تـلميـع صورة الـسياسـة الـخارجية لأمـريكـا.

 

فتقارير العفو الدولية، أو منظمة هيُـومن رايـتس ووتـش مثـلا، هي تقـارير انتقــائية، والأخطـر أنها تعـتمد على “شهادات الشهود”، مما يجعل إمـكانية الـتحقق مـن صحتها أمـرا صعـبا للغـاية.

 

ولأن الـمنظمات غير الحكومية هي مكـون أسـاسي للنظـام العالمي في الـقرن 21؛ حـيث تنـوعـت أنشطتهـا بـيـن محاربـة الـفقـر والـدفاع عـن الـبيـئـة والحـريات الـمدنيـة الـفردية… وقـبل كـل هـذا الدفاع عـن الـديمقـراطية والـتـرويج لهـا في كـل دول العـالـم، فقد سعى فـاعلـون سياسيـون واقتصاديـون وماليـون إلى جعل هذه المنظـمـات أدوات طيعــة في أيـاديهـم وتحكمـوا في تـقاريـرهـا الــسنوية وتـوجيهاتهـا، وأصبحت الـتقـاريـر جـاهـزة علـى مقـاسهم.

 

وهو ما يُـبرر إصدار روسيـا لقـانـون يُـجيـز للإدارات توقيـف كـل المنظمات غيـر الحكوميـة الـتي تهـدد الـنظـام العـام وأمـن الـبـلاد، أيضـا تـوقـيف كـل الـحسابـات الـبنكية للـمنظمات التي لا تـوضح أعمالهـا ومـصادر تمويلهـا للسلطـات الـروسية.

 

وبنـاء على قـرار الـنائب العام لـموسكو، فـقـد نشرت السلطات الروسية لائحة بـ 12 منظمة غير حكـومية أجنـبيـة، ووصفت أعمالهـا بـ “غيـر المقبـولة” وتحـريضيـة، وتـتـستـر بأهـداف إنـسانية، كمظلة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة؛ حيث اعتبـرت إدارة منظمـة المعهد الوطني للديمقراطية (National democratic institute (NDI، المسيرة مـن طرف مادلـين أولـبـرايـت وزيرة الخارجية الأمريكية سابقا، “غيــر مرغوب فيها”، وأيضا OPEN SOCIETY، أو ما يعرف بـ FONDATION SOROS، التي عملـت على سحـب الشرعية من الانتخابات الروسية والمس بسمعـة الـجيش الــروسي.

 

لذلك فمن الضروري إنزال المنظمات الحقوقية الدولية، ومن بينها منظمة العفو الدولية، من علياء بـرج الموضوعية والحيـاد في حالـة استمرارهـا في نسـج تقارير على مقاسات مصالح أخرى، تضرب في العمق الوحـدة التـرابيـة وتماسـك اللحمة الوطنية الداخلية.

 

إننا لا نخاف الانتقـاد الموضوعي والـبنًـاء، بـل نحبـذ بنـاء ثقـافـة الاختـلاف والتعـايش والمكاشفة والنقـد الذاتي في ظـل مؤسسات حكومية أو حقوقية أو من المجتمع المدني هدفهـا حمايـة حقـوق الإنـسان وبنـاء دولـة الحـق والقـانون.

 

وفي انتظار إصدار تقرير الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان في العالم، فإننا نجهر بأننــا لا نـدعي أن المغرب هـو “المـدينـة الفاضلـة”، بل المغرب يُحـاول ويـشتغل ويتحـرك، والـمهم أنه لا يـتوقف، وهو يسيـر ويـتأثـر ويُـؤثـر في محيطـه الإقليمي الإفريقي والعـالمي، ولازال ينتظرنـا الكثيـر من الـعمل.